الحارة أيام زمان

الحارة أيام زمان صورة اجتماعية

صورة عامة :

قبل أكثر من نصف قرن من الآن، يمكن لنا أن نصنف الأسرة التي تقطن الحارة واحوشتها السبعة إلى فئتين رئيسيتين اسر تنتمي إلى الطبقة المتوسطة ميسورة الحال مادياً، وفئة فقيرة معدمة تعاني الفاقة والشح إذا تناولت طعام الفطور لاتجد ما تأكله في الغداء والعشاء تأكل « اللبة والسكر، ومرقه الهواء والدهنة، بكسر الدال » تشاهد الفرد منهم والرقع تغطي الثوب الذي يلبسه « واغلبها من القماش المسمى بالساحلي »!….. «على باب الله» كما يقال وهو واقع كانت تعاني منه اغلب الأسر بالمدينة داخل السور وخارجه، والحياة زمان أيامها وشهورها وسنينها أضحت صورها كلها تتجسد في ذاكرة أهل الحارة الطيبين خارج السور، وتروى وقائعها وأحداثها كتاريخ يحمل بين جنباته ما امتاز به أهلنا من الرضا والقناعة والصبر على المحن وعدم اليأس والحزن على ما مضى وكيف كانت الأجواء في تلك الأيام هادئة توحي ودون ادني مقدمات ببساطة المعيشة حيث كان الناس « اوادم » كل فرد منهم يعرف حدوده يخاف الظلم ويمقته ويحب الخير ويسعى فيه على فطرتهم مع إيمان راسخ بما يؤمنون به من معتقدات دينية وقيم وعادات وتقاليد، عنوانها العفة وعزة النفس والصبر على المحن.

قال الشاعر:

وما آدم في مذهب العقل واحد ولكنه عند القياس اوادم.

وكأني بأحدهم يصور ما يكابده من فقر وخمول فيصف البيت والحجرة التي يسكنها وقد هطلت الأمطار وازدادت الغرفة والبيت ظلاما وضاق بها صدره قال:

انا في حجرة تجل عن الوصف ويعمى البصير فيها نهارا

هي في الصبح كالظـلام وفــي الليل يولي الأنام عنها فرارا

وإذا ما الـــرياح هــبت رخــاء خلـت حيطانها تميد انتشارا

رب عــجل خرابها وأرحنــي من حذاري فقد مللت الحذارا

ويصف أبو الحسين الجزار داره وما آلت إليه من خراب وقدم وحالة الفقر التي يعيشها وما يعانيه من بؤس بعد تركه للجزارة ونتيجة لتردي الأوضاع الاقتصادية في مصر فيقول:

ودار خــراب بها قد نـزلت ولكن نزلت الى السابعة

وأخشى بها أن أقيم الصلاة فتسجد حيطانها الراكعة

ولم تكن اغلب بيوت الحارة بعيدة عن هذا الوصف فقد ذكر احد الرحالة « العصر القاجاري » الذي زار المدينة قبل قرنين من الزمان قال: «والعجيب ان شيعة أهل المدينة يسكنون خارج المدينة القديمة، وبيوتهم رديئة جدا وخربة » واغلب الأحوشة كانت مملوكة للاغاوات كحوش « الأغا دولات» و«حوش الأغا المستسلم»، وحوش المغربي وحوش الفقي ولأنها مبنية من الحجر والطين وسقفها من سعف وجريد النخيل وحيطانها تكثر فيها التشققات والفتحات إلى جانب وجود الآبار والبرك في بعض البيوت فإن الحشرات خاصة الثعابين كانت تشارك أهل تلك البيوت السكن ولم يكن هذا أمراً مستغرباً، وكثيراً ماكان والدي يستدعي احد الرجال « الزاكور» لإخراجها من البيت عندما تزداد اعدادها ولك أن تتصور كيف كنا ننام وهي تسرح وتمرح فوق رؤوسنا، وفي فصل الصيف كان أهل الحارة ينامون على أسطح منازلهم بعد أن يتم رشها عند الزوال حتى «يرقد ترابها ويبرد» وبعد المغرب تفرد المراتب وهي من القطن على الخصف المصنوع من سعف النخيل وتخيل معي ما يشعربه النائم من لذة وعذوبة وسمو تلك النومة «وأنت راقد» تحت السماء وهي مزينة بنجومها وتوهج وروعة قمرها، وأمامك المركن وهو يحمل الشراب والزير و«الماء المبخر» ورغم تواضع بناء تلك البيوت وما قيل عنها إلا أنها كانت عنوان للنظافة والترتيب، يسكنها رجال هم أهل نخوة وإباء وهؤلاء يشكلون السواد الأعظم من اهل الحارة.

ولا يخلو أي مجتمع من وجود قلة أغواها الشيطان وتمردت على المجتمع وحاولت أن تتميز على الآخرين من خلال سلوك الطرق والأساليب الملتوية أثناء التعامل مع الناس داخل الحارة وخارجها وبالرغم من كل ذلك فلم يسمع يوما أن احدهم دخل السجن بسبب جناية وجريمة أخلاقية حتى كنا نسمع من كبار السن قولهم: «إن المجرم عندنا إذا شاهد الجنازة وقف وقال: لا اله إلا الله».

فالأسر داخل الحارة بحسب ما ذكرنا تنقسم إلى فئات أسر تنتمي للطبقة الوسطى الميسورة الحال وأهلها نال بعضهم قسط من التعليم والمعرفة ولديه مورد مالي يكفيه مشقة السؤال وان غلب عليهم الاشتغال في أعمال الفلاحة وكحرفيين في الصناعات البسيطة والمتوسطة وتجارة الجملة والتجزئة حيث كانت التجارة في ذلك الوقت وقفاً على من يعيشون داخل السور، وبعض العاملين في الحرم «من فراشين وسروجيين وبوابين ومزورين ومؤذنين» ولوجود الأسواق المركزية داخل السور، شارع العينية، وسويقة، وباب المصري وسوق الحبابة، وسوق الذهب، والمطباخة، وسوق العياشة، وسوق الغنم في باب المناخة…. الخ.

ولم يكن عدد العاملين من أهل الحارة داخل السور بالعدد الكبير عدا «الخان» وهو الاسم الذي يطلق على «سوق الخضار واللحم وحلقة الخضار»، أي «الحراج وسوق الجملة أي الحلقة» وقلة احترفت بعض المهن الغير مألوفة كبيع التمور والحبوب وتصليح الدوافير والحدادة والنحاسة وإدارة المقاهي وبيع المفارش.

والله ولي التوفيق .

أ. يوسف ناشي .
سبق نشره في 2011/8/15م.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *