رجال في الذاكرة

رجال في الذاكرة

بعض ما تختزنه الذاكرة عن رجال كانوا كبارا ذو حصافة وفكر عملوا لغيرهم وضحوا وفقدوا الكثير ونالوا القليل عاشوا لأهلهم ونسوا أنفسهم لكن الآلاف في الحارة لازالوا يحكون قصصهم ويروون نوادرهم و يتذكرون مواقفهم، أقوالهم، أعمالهم، مغامراتهم، وبطولاتهم إنهم الطيبون الذين لولاهم لما كنا ، فهم السبب في وجودنا والتاريخ الناصع الذي نحمله على أكتافنا رجال في الذاكرة يلقي الضوء على فئة حفرت لنفسها أثراً عميقا في جدار التاريخ وكان لها الخلود ومن الوفاء الحديث عنهم بما يستحقونه من إجلال وتقدير كما أن في إيراد أخبارهم والكتابة عن أعمالهم ما يعود بالفائدة على جميع فئات المجتمع خاصة الشباب وذلك بأخذ العبر والتزود من تجاربهم والاستمتاع بما قاموا به من أعمال وما سطروه من بطولات وما سجلوه من مواقف كانت عنوانا لما يحملونه ويتصفون به من مكارم الأخلاق و قيم ومثل صارت مضرب الأمثال لدى القاصي والداني ويحكي تفاصيلها الكبار والصغار، المرأة والرجل على حدا سواء .

استعراض سريع وموجز لبعض رجالات الحارة من المزارعين (الفلاحين) والحرفيين والعلماء و المشائخ والبسطاء الذين كان لهم بعض الشأن داخل الحارة وخارجها أو قل أنها خواطر و قصص لأناس تركوا لنا ما نفتخر به أمام الآخرين.

بائع الفحم :
معرفتي به لم تتجاوز حدود السماع، ممن عرفوه وعاشوا معه وبعضهم كانت تربطهم به أواصر القرابة وآخرين كانوا مجاورين له في السكن حيث كان يقيم في (حوش الشريف)(1) شقة الشيخ أبوعزه وقد شدني إليه ما يروى عن أخلاقه وسلوكه وتعامله مع الصغير والكبير وكان للرجل مزاجه الخاص هي الصراحة والوضوح والطيبة التي جبل عليها، وبعض التصرفات الغريبة في نظر البعض ودائما ما تكون وجهة نظره صائبة وكانت مدار حديث الجميع في منتدياتهم ولقاءاتهم.
عاش رجلنا في منتصف القرن الماضي وكان يمتهن الكثير من الأعمال مثله مثل الآخرين في ذلك الوقت فقد مارس بيع الخضروات وعمل في الزراعة والبيع والشراء حتى أواخر حياته.
قبيل الحرب العالمية الثانية أخذ يشتري الفحم ويخزنه في بيته حتى ضاق المنزل بمن فيه ورغم قيام العديد من الأهل والأقارب بمحاولة ثنيه ونصحه في عدم شراء الفحم خاصة وأنه ليس بالتجارة المطلوبة والمرغوبة وكيف يشتري فحماً والناس تركته بعد ظهور(الدافور والطباخة)(2) التي تعمل بالكاز (الكيروسين) وهى سهلة الاستعمال ولا تسبب أوساخاً أو تلفيات ومع ذلك فإن الفحم والحطب اقتصر استخدامه على المقاهي وعند إقامة الولائم وفي المناسبات الكبرى إلا أن إصرار صاحبنا وعناده كان موضوع للسجال والأخذ والرد لماذا الفحم فهناك الكثير مما يمكن بيعه ويكون مربحاً علاوة على سهولة حمله وتخزينه، فكان جوابه لمن يسأله أنا حر فيما أبيع واشتري واعرف مالا تعرفون فكأنه كان يحس بشي ما قد يقع.

لكن ما هو هذا الشيء ؟ ومتى وأين قد يقع ؟ وما هي الآثار المترتبة عليه ؟ وهذا كله من الأمور الغيبية ولا يعلم الغيب إلا الله علام الغيوب.

بعد أن امتلاء البيت بالفحم والساحة الخارجية اخذ الكل يتساءل عن الفائدة التي يسعى إلى تحقيقها والأرباح التي سيجنيها من بيع الفحم.
وما هي إلا أسابيع قليلة حتى أخذت الأخبار تتوالى تباعا فقد قامت الحرب العالمية بين الدول الأوروبية وألمانيا وأصبح الراديو ملازما للجميع والكل يحاول معرفة آخر أخبار الحرب ولكن أكثر الأخبار إثارة هو توقف وصول النفط ومشتقاته (البنزين، والكاز (الكيروسين)، و الديزل … الخ) مما يعني التوقف عن استخدام الأجهزة والآلات التي تعمل بالنفط (الطباخة والدافور) وعلى الناس العودة إلي (الكانون والمنقل)(3) باستخدام الفحم والحطب وهكذا جاءت الفرصة لصاحبنا في إخراج الفحم الذي كان يخزنه لبيعه بالسعر الذي يناسبه وبدا الناس يتوافدون من جميع أنحاء المدينة لشراء الفحم وجميع أهل الحارة وكان منظر الناس وهم متجمعون أمام بيته في شقة الشيخ أبوعزة بحوش الشريف محل استغراب وافتخار من الأقارب والأصدقاء لما يحدث وما يشاهدونه أمامهم ومع أنها فرصة للغنى قد لا تتكرر لكسب المال الحلال إلا أن هذا الرجل المؤمن كان قنوعاً راضياً بما قسمه الله سبحانه له من رزق فكان يبيع دون مغالاة في السعر فأسعاره لم تكن مرتفعة بل يقدر على دفعها الفقير والغني فلم تكن جائرة الأمر الذي اكسبه محبة واحترام كل من عرفه.

وكأن لسان حاله يقول ما قاله الشاعر:

لم يـزدني المـال إذ جـاء غـنى

كـنت أغـنى الناس إذ كنت فقيرا

كـم أتـاني المـال لـم أعبأ به

هـاربـا مـنه ولـم امـلك نقيرا

أسـأل المـال الـذي قـد سـركم

كيـف في اليـوم لم يبعث سرورا

مالـي الخـير الـذي أعـمـله

مالي السعي الذي يرضي الضميرا

*ما قام به صاحبنا المؤمن تصرفا طبيعيا فهذه هي أخلاق أهل الحارة الذين تربوا على مكارم الأخلاق التي دعانا إليها الرسول وال بيته عليهم السلام عاش صاحبنا حتى أواخر الستينات الميلادية من القرن الماضي.

والله ولي التوفيق .

أ. يوسف ناشي
سبق نشره في 27-7-2010م

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) حوش الشريف :احد أحوشة الحارة السبعة خارج السور وتقع فيه الحسينية
(2) الدافور والطباخة: من اجهزة الطبخ قديما تستعمل الكاز( الكيروسين ) كوقود
(3) الكانون والمنقل: من اجهزة الطبخ وهي اقدم من الدافور والطباخة ووقودها الجمر وهي مصنوعة من الحديد ومعروفة للكثير حتى وقتنا .

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *