محمد يوسف جادي

قصة محمد ووجدان الحارة العام

صور اجتماعية من داخل الحارة

نقل بعض الغريب والطرف من ماضيها المجيد

المدينة النبوية ومنذ تأسيسها اجتمع فيها مختلف الأقوام وممثلوها من شتى القبائل والأقطار ومذاهب وديانات وفلسفات وثقافات احتوتهم المدينة ومعهم ما يملكون من صفات ومواهب وفنون وأساليب تعامل ولهجات وعادات وتقاليد ومأثورات اجتماعية والحارة جزء من هذا الكيان العظيم العريق، ولا يعرف على التحديد متى ظهرت الحارة كنمط معماري مميز وإن كان يرجح القول بظهورها بعد بناء السور في القرن الرابع الهجري الذي كان يحيط بالأحياء القريبة من الحرم.

والحديث عن محمد ما هو إلا محاولة لتسليط الأضواء على أولئك الرجال المتواضعين إلى حد إنكار الذات والمنزوين في الأزقة والأحوشة داخل الحارة في الظل من دون أن يلتفت إليهم أحد هو جهد يهدف إلى الحفاظ على بعض ما تختزنه الذاكرة من الأخبار الطريفة والقصص العجيبة مع إيراد شذرات من المواقف التي لا تمحى من الذاكرة للبعض من هؤلاء.

كنا نراه في كل مكان داخل الحارة في الشقق «جزء من الحوش» والشوارع والدروب والأزقة والزوايا والأركان كان دائم التنقل كثير الحركة لا تفوته أي مناسبة اجتماعية محبوباً يرتاح له الجميع والكثير يحسن معاملته بدافع العطف عليه والخوف من إغضابه و«زعله» ومنع أي إساءة له.

كان يحب الجلوس عند البقالات والدكاكين المنتشرة داخل الحارة لأنها كانت بمثابة «المركاز» وإحدى نقاط تجمع الشباب بل كانت تستهوى جميع أهل الحارة خاصة تلك التي تقع أمام الساحات العامة أو بالقرب منها حيث يمارسون ألعابهم ويتسامرون بسماع وإلقاء القصص والحكايات والنكات والطرف بالرغم من حبهم للجلوس في مقهى المعلم علي خبز خارج الحارة وكانوا يزورونه دائما فهو المكان الوحيد الذي يمكنك أن تسهر فيه حتى الصباح دون أن يسألك أحد لماذا تسهر وكان المقهى يضم نماذج غريبة من البشر تجد الضيف والمقيم والمعلم والصبي والشيخ والمجرم والمدرس والطالب والمعتوه والمجذوب والمريض النفسي تزداد أعدادهم أخر الأسبوع ليلة الجمعة.

كل من يجالسه يرتاح له ويحبه دون تكلف رغم أنه رجل بسيط جداً شاب مريض نفسياً «و مجنون بحسب مفهوم أهل الحارة» منذ الصغر، ماتت والدته وهو طفل صغير لا يجد من يرعاه ويحنو ويعطف عليه حتى ظهرت امرأة مؤمنة تصدت للقيام بتربيته والعناية به ورعاية شؤونه الخاصة تبنته واختارته ابناً لها يملئ حياتها وينسيها ما تشعر به وتعانيه من فراغ ووحده فهي امرأة عقيم لا تنجب رغم أن زوجها لديه أبناء من امرأة أخرى ووجدت فيه العزاء والسلوان وأزاح عنها الشعور بالضيق والإحباط واليأس فغدا «محمد» هو العلاج والبلسم.

 

وأصبح «محمد» كل حياتها كانت تخاف عليه تراقب حركاته وتحسب كل سكناته تدافع عنه بكل ما تملك من قوة باللسان وباليد إذا اضطرت لذلك وهو يبادلها نفس الشعور أحبها حبا جما ولا يعصى لها أمراً ينفذ جميع طلباتها دون أي تردد.

وجزاء المعروف عظيم عند الله جل وعلا وثوابه الجنة وجاء عن الرسول صلى الله عليه واله وسلم: «إن الله يجمع الفقراء والأغنياء في رحبة الجنة يوم القيامة، ثم يبعث مناديا ينادي من بطنان العرش: يا معشر المؤمنين أيما رجل وصله أخوه المؤمن في الله ولو بلقمة من خبز بادا مها، خصه بها على مائدته، فليأخذ بيده على مهل حتى يدخله الجنة (1)

عاش محمد في كنف هذه المرأة المؤمنة حتى توفيت «في التسعينات الهجرية» على ما اعتقد وهنا انقلبت حياته رأسا على عقب تغير عليه كل شي وأصبح يشاهد تائهاً هائماً يجوب أرجاء الحارة وهو شارد الفكر زائغ البصر ساهماً كأنه يبحث عن شيء مهم أو يحاول أن يستعيد شيئاً قد فقده وضاع منه ومع ذلك لم يفقد روح الظرف والفكاهة التي جبل عليها وتسمعه يردد دائما قول الشاعر:

صفايح الرز تجلي الهم عن كبدي


وكثر الأيادي تغم فؤادي

وإن غلب عليه نوعا من اللين والاستعطاف تجاه الآخرين فكنا نراه يجوب أنحاء الحارة خاصة الأحوشة القريبة من حوش الشريف منتقداً الطفيليين «وهم فئة لا يخلو منهم أي مجتمع» الذين كانوا لا يتركون أي مناسبة تقام ولا تفوتهم الولائم بدعوة أم بدون دعوة إلا وحضروها «بتلة» أي ببلاش ومما لا ينسى عندما كان يجلس أمام بسطة العم المرحوم بإذنه تعالى محمد الحكري وعند مدخل حوش الشريف ينتقد ما يراه منتصرفات ومواقف يقوم بها النساء والرجال على حد سوء، الأمر الذي جعلهم يحاولون استرضائه وكسبه لصفهم ليتقوا لسانه ويكسبوا سكوته لمصداقيته التي جبل عليها فهو لا يكذب أبداً فما يراه أو يسمعه يقوله كما رآه أو سمعه.
قال الشاعر:

واني لمطبوع على الصدق جاهر

 

بآياته،والنصل في النطع يقصر

 

أقــول لـــذي العينين انك مبصـر

 

وللأعــور المــغـرور انــك أعــور

 

لم يكن في سلوكه عدوانيا وكانت جميع تصرفاته عقلانية فهو لم يكن مجنوناً فاقداً للعقل وإنما مريضاً نفسياً نشأ في مجتمع وبيئة ترى فيه مجنوناً وهذا حال الناس حتى وقتنا الراهن ولا نتعدى الحقيقة إذا عرفنا شدة إعراض الكثير من الاختلاط بالناس للإحباط الذي كانوا يشعرون به لغياب مصداقية المجتمع وانقلاب المفاهيم والقيم ولازالت هذه الفجوة قائمة مما يصدق عليه ما قاله الشاعر:

 

ذهب الرجال المرتجى لفعالهم

 

والمنكـرون لكــل أمـر منـكر

 

وبقيت في خلف يزين بعضهم

 

بعـضاً ليدفع معوز عن معوز

 

يصادف قيام أحدهم عمل وليمه للغداء في بيته يدعو إليها عدد من الأقارب والجيران ويغلب عليها الطابع السري أو يحاول صاحبها عدم انتشار خبرها ما أمكنه ذلك إلا أنه يفاجأ بأن الكل يعلم بها ويعرف بأدق تفاصيلها وهذا ليس بمستغرب إذا عرفنا أن الأحوشة ومنازلها وجميع أهلها وسكانها يعرفون بعضهم البعض بحكم الجيرة والقرابة ورابطة العقيدة والعادات والتقاليد التي تحكم تصرفاتهم وحركاتهم وسكناتهم مما يجعل كتم أمر ما أو إخفائه من المتعذر وقد يصل حد الاستحالة.

كان الشباب في ذلك الوقت تندراً يذهبون إلى صاحبنا «محمد» يمازحونه ويسألوه عن آخر الأخبار ويبدأ محمد في سرد الأخبار وبالتفصيل الممل وبأسلوب كان يتصف به «كله سخرية واستهزاء وتهكم» فترتفع الضحكات والقهقهات لتعم المكان كله، ومع ذلك فالجميع يحبه ويعطف عليه ويأنس إلى محادثته ومجالسته.
وكأنه يحاكي شاعر المهجر اللبناني إلياس فرحات في أنه يقول الصدق قال:

 

واني أرى أن الرياء معرة

وأن خبيث القول في الصدق طيب

 

فهو يمثل تجربة إنسانية تجسدت فيها صور الصراع النفسي والمعاناة الاجتماعية والأسرية وفي مرحلة من حياته عاش مع عدد من العزاب أبناء عمومته الذين كانوا مقيمين في احد الأحوشة*، وفي أواخر أيام عمره أخذت الأمراض تفتك به حيث ازداد وزنه بصورة كبيرة بسبب قلة الحركة فكانت السمنة إحدى أهم العوامل التي سارعت في انهيار صحته فبدأ الوهن والضعف يسري في جسمه حتى وفاته وهو في العقد الرابع من العمر في «20/ 12/ 1400هـ» على ما اعتقد وتم دفنه في مقبرة البقيع رحمه الله واسكنه فسيح جناته.

والله ولي التوفيق،،،

 

يوسف ناشي .

  • حوش الفقيه

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) محمد على دخيل و محمد حسن على دخيل: قصص وحكم…..: دار المرتضى بيروت ص146، 147 نقلا عن كتاب إرشاد القلوب ج 1ص263 “

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *